نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2605
تجعل له قيمة ووزنا «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير! وهنا يرد مشهد من مشاهد القيامة يرسم ذلك اليوم الذي يتقيه إبراهيم، فكأنما هو حاضر، ينظر إليه ويراه، وهو يتوجه لربه بذلك الدعاء الخاشع المنيب:
«وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ. وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ!» .
لقد قربت الجنة وعرضت للمتقين، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين. ولقد كشفت الجحيم وأبرزت للغاوين، الذين ضلوا الطريق وكذبوا بيوم الدين، وإنهم لعلى مشهد من الجحيم يقفون. حيث يسمعون التقريع والتأنيب، قبل أن يكبكبوا في الجحيم.. إنهم يسألون عما كانوا يعبدون من دون الله- وذلك تساوق مع قصة إبراهيم وقومه وما كان بينه وبينهم من حوار عما كانوا يعبدون- إنهم ليسألون اليوم: «أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟» أين هم «هل ينصرونكم أو ينتصرون؟» ثم لا يسمع منهم جواب، ولا ينتظر منهم جواب.
إنما هو سؤال لمجرد التقريع والتأنيب «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» . كبكبوا.. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه. وإنهم لغاوون ضالون، وقد كبكب معهم جميع الغاوون هم «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» . والجميع جنود إبليس. فهو تعميم شامل بعد تخصيص.
ثم نستمع إليهم في الجحيم.. إنهم يقولون لآلهتهم من الأصنام: «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» فنعبدكم عبادته. إما معه وإما من دونه. الآن يقولونها بعد فوات الأوان. وهم يلقون التبعة على المجرمين منهم، الذين أضلوهم وصدوهم عن الهدى. ثم يفيقون فيعلمون أن الأوان قد فات، وأنه لا جدوى من توزيع التبعات: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» فلا آلهة تشفع، ولا صداقات تنفع.. وإذا لم تكن شفاعة فيما مضى أفلا رجعة إلى الدنيا لنصلح ما فاتنا فيها؟ «فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ! وما هو إلا التمني. فلا رجعة ولا شفاعة فهذا يوم الدين! ثم يجيء التعقيب المعهود: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
وهو نفس التعقيب الذي جاء في السورة بعد عرض مصارع عاد وثمود وقوم لوط. كما جاء تعقيبا على كل آية من آيات الله وقعت للمكذبين. فهذا المشهد من مشاهد القيامة عوض في سياق السورة عن مصارع المكذبين في الدنيا. إذ يصور نهاية قوم إبراهيم. ونهاية الشرك كافة. وهو موضع العبرة في قصص السورة جميعا. ومشاهد القيامة في القرآن تعرض كأنها واقعة، وكأنما تشهدها الأبصار حين تتلى، وتتملاها المشاعر، وتهتز بها الوجدانات.
كالمصارع التي تمت على أعين الناس وهم يشهدون.